بالكاد انتبه المصريون إلى اقتراب الذكرى الثلاثين لاغتيال السادات في السادس من أكتوبر الجاري، وليس ذلك لأن المصريين منشغلون في هذه المرحلة بالاحتجاجات السياسية والإضرابات العمالية فيما البلاد تتلمس طريقها نحو انتخابات ديمقراطية، بل فقط لأنهم لا يهتمون. فبالنسبة للشباب المصري الذين كانوا وراء إطلاق ثورة 25 يناير في ميدان التحرير وأدهشوا العالم بتماسكهم، يظل السادات وجهاً ينتمي إلى ماضٍ بعيد، وحتى إذا التفتوا إليه وألقوا إليه بالًا، يسارع العديد منهم إلى كيل الانتقادات عليه لدوره في صنع السلام مع إسرائيل، بل إن قليلًا منهم يبدي ندماً، أو حزناً على اغتياله من قبل المتشددين الإسلاميين أثناء العرض العسكري الذي شهدته القاهرة في 6 أكتوبر 1981. ومع ذلك يبقى السادات مقاتلا ًبارعاً، وأحد رجال الدولة المشهود لهم، فبعد فترة قضاها نائباً للرئيس، وصل السادات إلى السلطة عام 1970 عقب الوفاة المفاجئة لأيقونة مصر الأولى، الرئيس جمال عبد الناصر، حينها كانت البلاد ما زالت تترنح من الهزيمة القاسية أمام إسرائيل في حرب الأيام الستة قبل ثلاث سنوات، ومباشرة بعد توليه السلطة عمد السادات إلى تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة وأقدم من دون ضجة على طرد الخبراء العسكريين السوفييت من مصر عام 1972، ثم تفرغ لوضع خطته الذكية التي فاجأت من خلالها القوات المصرية والسورية الدفاعات الإسرائيلية عام 1973 فيما يعرف عند المصريين بحرب أكتوبر وعند الإسرائيليين بحرب يوم الغفران. وكما خطط السادات أعاد الهجوم المباغت على إسرائيل الشعور بالفخر لدى المصريين ووضع حداً للجمود الذي اعترى طويلا عملية السلام في الشرق الأوسط، وبعد أربع سنوات أقدم السادات على أهم خطوة دبلوماسية في تاريخ المنطقة المعاصر عندما ذهب إلى إسرائيل وقال أمام الكنيست "نحن نرحب بكم ترحيباً كاملا لتعيشوا معنا في سلام وأمن"، وعلى إثر ذلك اقتسم الرئيس السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي، مناحين بيجن، جائزة نوبل للسلام في عام 1978 بعدما نجح الرئيس الأميركي، جيمي كارتر، في التوسط بين الجانبين والتوقيع على معاهدة كامب ديفيد، وبموجب الاتفاقية التي دخلت حيز التنفيذ في السنة التالية أعاد السادات شبه جزيرة سيناء إلى حظيرة الوطن بعد احتلالها من قبل إسرائيل في حرب الأيام الستة وأخرج مصر من دائرة الصراع في الشرق الأوسط ليتمكن المصريون من التركيز على بناء بلدهم والالتفات للتنمية. وعلى مدى السنوات اللاحقة اقتنع العديد من المصريين بالمبادرة السياسية للسادات كما يؤكد ذلك العنوان الذي اختارته مجلة "روز اليوسف" لملف عددها الأخير: "بعد ثلاثين عاماً: السادات عبقري أم متهور؟" لتجمع معظم المقالات على أن السادات كان سياسياً ذكياً، فعلى غرار الزعيم السوفييتي السابق ميخائيل جورباتشوف، والرئيس الجنوب أفريقي، "فريديريك ديكلارك" قرأ السادات المؤشرات مسبقاً وقرر تغيير مسار التاريخ، حيث كسر المحظور عندما هيأ العالم العربي لتقبل فكرة إنهاء مرحلة العداء والصراع. وبحلول عام 2002 صوتت الجامعة العربية التي طردت مصر قبل 32 عاماً لتوقيعها معاهدة سلام مع إسرائيل لصالح مبادرة السلام التي تمنح إسرائيل السلام الكامل مقابل انسحابها من الأراضي التي احتلتها في حرب 1967. بيد أن ما يقف حائلاً دون تحول السادات إلى بطل في أعين المصريين، كما هو عليه في نظر العالم، أن السلام الذي توصل إليه لم يكن مشرفاً بالمعنى الحقيقي للكلمة، فقد اتفق مع إسرائيل فيما تُرك الفلسطينيون ليتدبروا أمرهم، وهو ما شجع إسرائيل بعد خروج أكبر دولة عربية من حلبة الصراع على توسيع المستوطنات في الضفة الغربية وإلحاق القدس الشرقية إلى حدودها، وعملت طيلة هذه الفترة على تأجيل وتعطيل منح الفلسطينيين حق تقرير مصيرهم، ومن المرجح اليوم بالنسبة للجيل الجديد من المصريين الأكثر شجاعة في محاربة الظلم وإهدار الكرامة ألا يركنوا للاتفاقات السابقة، لا سيما وأن الديمقراطية المصرية ستنتج سياسة خارجية أكثر تجاوباً مع الرأي العام الذي بات ميالًا لمراجعة معاهدة السلام مع إسرائيل. وقد شهدنا كيف ساءت العلاقات بين مصر وإسرائيل منذ الإطاحة بمبارك قبل ثمانية أشهر، ورأينا كيف اقتحم محتجون مصريون السفارة الإسرائيلية واضطر دبلوماسيوها إلى الفرار خارج البلاد، كما توالت عمليات تفجير أنبوب نقل الغاز إلى إسرائيل في سيناء، فضلا عن تصريح رئيس الحكومة المصرية، بأن معاهدة السلام مع إسرائيل "ليست مقدسة" وهي خاضعة للتعديل، ويمكن تصور ما سيحدث في ميدان التحرير لو أن إسرائيل شنت حرباً في المنطقة مثل التي شنتها على لبنان في 2006، أو على قطاع غزة في 2008، لذا نحن في حاجة اليوم إلى رجال دولة من طينة السادات يملكون ما يكفي من الشجاعة والرؤية، فبعد موجة من الحماس أبداها أوباما لمواجهة نتنياهو حول موضوع المستوطنات عاد ليتراجع بعد ذلك، فيما سيواجه رئيس مصر المقبل تحدياً جسيماً فيما يتعلق بالحفاظ على معاهدة السلام مع إسرائيل مع ما يصاحبها من مساعدات اقتصادية وعسكرية أميركية وتسويقها لرأي عام مناوئ للسياسات الإسرائيلية. وأخيراً ستمثل الخيارات التي ستتخذها إسرائيل عاملاً مهماً في تحديد آفاق السلام في المنطقة، فما لم تعلن حكومة إسرائيل عن قبولها غير المشروط لتطلعات الفلسطينيين للحصول على دولتهم المستقلة والتفاوض بنية صادقة لتحقيق هذا الهدف سيبقى تطلع السادات التاريخي نحو تسوية شاملة في الشرق الأوسط مجرد سراب. ----- سكوت ماكليود ------ أستاذ بالجامعة الأميركية في القاهرة ومراسل مجلة "تايم" السابق في الشرق الأوسط بين 1995و 2010 ------ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشونال"